باشر مالك بن نبي في كتابة ''العفن'' في 1 مارس 1951 بمدينة بلوات، بعدما تعرّف القارئ على ''مذكرات شاهد القرن'' بجزأيها (الطفل) و(الطالب) قبل أن يضاف إليهما (الكاتب) و(الدفاتر) التي غطت مرحلة 1958 ـ ,1973 سنة رحيله. وصدر الجزء الأول منه (1932 ـ 1940) مؤخرا عن ''منشورات الأمة''
و ترجمه إلى العربية نور الدين خندودي. يتحدث بن نبي عن مسيرة شاقة وصعبة في حياته، مبررا عنوانه، بقوله: ''لقد رأيت النور في سنة 1905، أي في زمن خطا فيه المجتمع الجديد أولى خطواته، فأنا أنتمي إذن إلى الجيل السيئ الذي يختم طور التحلل الذي ألَمّ بالحضارة الإسلامية ويأذن لعصر جديد يختلط فيه نوعان من ''العفن'': الاستعمار والقابلية للاستعمار، ولكنه عصر تنبثق منه، هنا وهناك، مؤشرات وبواكير نظام جديد لا يزال الغموض يلفه''. ويصف بن نبي نفسه ''بالنحلة المتخمة''، في إشارة منه إلى عسل ليس مصدره رحيق الزهور و''لكن خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الجسدي والسم المعنوي''، وكثيرا ما حملت جمل المفكر ما فعله ''ماسينيون'' في حياته.
يستعمل بن نبي كلمات مباشرة لا لفّ فيها ولا دوران، عندما يتحدث عن الأهالي من سكان الجزائر، ويقسمهم إلى نوعين، نوع (الخونة الواضحين) مثل الدكتور بن جلول ''وهو صنف يقتات من أموال الاستعمار ومن ازدراء الشعب''، أما الصنف الثاني فهم (الخونة المترفين) الذين يعيشون من أموال الشعب باستغلال جهله. وقد ركز الكاتب مذكراته على النوع الثاني من الأهالي. يحكي المفكر موقفه المزدري من الوفد الجزائري المشارك في المؤتمر الإسلامي في 1936 الذي يتقدمه بن جلول رفقة بن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ''أدركت من يومها أنه لا يرجى خير كثير من الأزهر والزيتونة وكلية الجزائر''.
كما لم يكن متفقا على المبادئ التي تأسس عليها تشكيل وفد الأنديجان وسفره، فعارض تسليم بن جلول رئاسة المؤتمر بيد أنه كان من المفروض أن تسلم إلى جماعة (العلماء): ''مهما يكن فقد كبّرت أربعا على (العلماء) وأقمت عليهم الحداد منذ سنة ,1936 واعتبرتهم أعجز من فهم فكرة ناهيك عن تصورها وتنفيذها''، يكتب صاحب ''وجهة العالم الإسلامي''، وهو في قمة تشاؤمه أمام عجز العلماء، على فهم فكرة التنديد بالاستعمار ورفض الانسياق وراء مواقف بن جلول، الموالية للمستعمر: ''لم يكن العلماء سوى مجموعة مسكينة من الخانعين الفاترين، من غير اقتدار يسمو بهم لمستوى الوضع، فقد كانوا يستظلون بعدالة الإله ويستكينون إليها لمواجهة الظلم الشرس الذي حاق بهم'' يضيف الكاتب. فهو يعتقد جازما، أن الحرب العالمية الثانية كانت رحمة على ''الأنديجان'' لأنها جنبتهم الاستمرار تحت إمرة بن جلول وجماعته. يعبر بن نبي عن تشاؤمه أمام إصرار الناس على عدم التفطن والتفتح على ضرورة التخلص من الخنوع. وبعد سلسلة من الضغوط الممارسة عليه وعلى صديقه بن ساعي، فضل بن نبي التوجه إلى المشرق، إلا أنه لم يكن سهلا عليه التخلص من رقابة ''ماسينيون'' التي حالت دون ذهابه إلى مصر، ونقرأ في الصفحة 129 اعترافه: ''أعتقد أنني لم أكن بعيدا جدا عن الردة عن الإسلام في تلكم الأيام''، جملة جاءت بعد أن اصطدم مالك بن نبي بحقيقة قبول المهندس اليهودي ورفضه هو المهندس المسلم، إلا أنه سرعان ما يعلق على كلامه بقوله: ''هذا الإسلام الذي خانه المسلمون والذي لم أر فيه أي روح أو مهب عقل. إني أسجل هذه النقطة لأن لها أهميتها فيما بعد''. ويرد المفكر غضبه إلى عدم وقوف المسلمين خواصا ورسميين معه في محنته، التي جعلته يقول: ''بأن قابلية الاستعمار عند الأهالي هي أهم وسيلة في متناول الاستعمار''. ينكشف لنا بن نبي رجلا محبطا ''مجنونا'' بفعل الخيبات المتتالية التي منعته وأصحابه من ممارسة دورهم كمثقفين وجزائريين يريدون فتح الباب على أفق غير خاضع، الكلمات تتدفق في المذكرة، مباشرة قاسية متمردة ومنتقدة لشخصيات كانت مازالت تؤمن بإمكانية الاندماج مع فرنسا: ''آه! كم أفهم الآن كيف أن هواة على شاكلة فرحات عباس لا يدركون مرامي الاستعمار الذي يتحدثون عنه. يجب أن يواجه المرء الوحش عن قرب وجها لوجه وأن يحس بقبضته الخانقة'' في إشارة منه لاحتكاكه المباشر مع فرنسا الاستعمارية على أرضها هنا